بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم الدولة الاسلامية بين المثالية النظرية والواقع
إعداد الأستاذ: عبدالمحمودأبو
الأمين العام لهيئة شئون الأنصار
الدولة الاسلامية ودولة الاسلام والخلافة والامامة مصطلحات تعبر عن النظام السياسى في الاسلام، ومعلوم أن الاسلام جاء دينا عاما يوجه حياة الفرد والجماعة وفيه أحكام لايمكن تطبيقها إلا في ظل دولة لها أجهزة قضائية وعدلية تملك سلطة تنفيذ الأحكام.
إن الأحكام الاسلامية تنقسم إلي عقائد وعبادات ومعاملات، فالعقائد والعبادات أحكامها توقيفية وثابتة ومفصلة لايؤثر فيها تغير الزمان ولا اختلافات ظروف المكان، أما المعاملات فجاءت أحكامها التفصيلية محدودة ومعظم أحكامها عامة وهي في الغالب مبادئ توجيهية تصلح لتعدد الأفهام وقابلة للتطبيق المرن على حسب ظروف الواقع واختلاف الزمان، والمراجع الفقهية فصلت أحكام العقائد والعبادات وكذلك المعاملات المتعلقة بالأحوال الشخصية والمعاملات الاقتصادية والحدود وغيرها من المعاملات التي لا يستغني عنها المجتمع، وأما الأحكام المتعلقة بالدولة والسلطة – وهي تدخل في مجال السياسة الشرعية – فما كتب فيها نادر جدا مقارنة بما كتب عن أحكام العبادات وأشهرما كتب قديما نجد كتاب " الأحكام السلطانية للماوردي" و"الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" لابن القيم ، وفي العصر الحديث واجهت أمة الاسلام تحديات كبيرة فيما يتعلق بالدولة في الاسلام، وطبيعتها، وكيفية إختيارالحكام، وتحديد مدة الحكم، وكيفية محاسبة الحكام وعزلهم، وأجهزة الدولة واختصاصاتها، وتنظيم العلاقة بينها. هذه القضايا لم تجد إجابة شافية فيما كتب في هذا المجال، لأن طبيعة الأشياء والقضايا جديدة ومعقدة لم يتوقعها سلفنا الصالح، عليه حاول العلماء والمفكرون المحدثون أن يجيبوا على التساؤلات التي فرضها الواقع الجديد من داخل تعاليم الاسلام واجتهدوا في هذا الجانب وتباينت آراؤهم وأفكارهم : فبعضهم نفى وجود سلطة سياسية في الاسلام كما فعل الشيخ علي عبدالرازق، وبعضهم أكد أن سلطة الاسلام السياسية تتمثل في الخلافة بشكلها القديم واستدل علي ما يقول من النصوص والتجربة التاريخية، وبعضهم حاول التلفيق بين أحكام الاسلام والنظم الغربية الحديثة وهكذا.. والموقف الراجح عندي هو أن الاسلام وضع مبادئ عامة تمثل فرئض الاسلام السياسية وهي الحرية والشورى والعدل والمساواة والوفاء بالعهد. وترك للمسلمين تحديد الشكل الذي يناسبهم لتطبيق هذه الأحكام وهذا الرأي يؤيده علماء معتبرون أمثال الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور محمد عمارة والامام الصادق المهدي والدكتور محمد سليم العوا والدكتور عصام البشير وغيرهم. وألفت في هذا المجال أبحاث مقدرة وإن لم ترق إلي مستوى بلورة نظرية محكمة للنظام السياسي في الاسلام. ورفعت شعارات مثل الحاكمية لله والاسلام هو الحل، وضرورة تطبيق الشريعة الاسلامية. وقامت تجارب تحكم باسم الاسلام في باكستان وإيران والسودان وأفغانستان والصومال فلم تفلح في تحقيق المجتمع الفاضل الذي بشرت به، وبرزت في الآونة الأخيرة تساؤلات أين الدولة الاسلامية التي بشر بها الدعاة؟ وهل التجارب التي قامت تعبرعن موقف الاسلام أم هي اجتهاد بشري قابل للخطأ والصواب؟ وهل من سبيل لقيام دولة اسلامية تقدم بديلا حضاريا ونظاما اجتماعيا أعدل؟ إنني أشارك بهذه الورقة في هذا الملتقى أرجو أن تساهم مع الأوراق الأخرى في تجلية الموقف في هذا الموضوع.
المحورالأول: مفهوم الدولة في الاسلام
الدولة تعبير يطلق على الكيفية التي يمارس بموجبها المجتمع البشري ثلاث سلطات مهمة لتماسكه واستقراره، هي: السلطة التنفيذية التي تقود وتأمر وتنهي، والسلطة التشريعية التي تضع القوانين، والسلطة القضائية التي تفصل في الخصومات.
الإسلام دين توحيد لله وإحسان بين الناس، ويقوم على فرعين جليلين: الأول:عقائد وعبادات تنظم علاقات الإنسان بربه- وتكاليفها ثابتة. والثاني معاملات تنظم علاقات الإنسان بأخيه الإنسان في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية- ومبادؤها مرنة وأحكامها متحركة. الدولة إذ تنظم علاقات الإنسان بأخيه الإنسان تدخل في نطاق مقاصد المعاملات الإسلامية. والإسلام لم يحدد مفهوما واحدا للدولة. فالدولة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة دولة نبوية شورية، أو بالتعبير الغربي"ثيوقراطية شورية" العنصر الثيوقراطي فيها هو أن رئيسها الذي يمارس السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية نبي يوحى إليه، أما العنصر الشورى فيها فهو أن النبي نفسه الزم نفسه بالشورى في كل الأمور التي سكت عنها الوحي.
دولة النبي كانت نسيج وحدها لأن ما جاء بعدها لم يكن على رأسه نبي يوحى إليه، والنبي لم يحدد من سيخلفه على دولة المدينة، بل لم يكن أحد يعلم من سيخلف النبي لذلك اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة وهموا باختيار أحدهم- سعد بن عبادة(ر.ع)- خليفة. ولكن الاجتماع حضره صدفة بعض المهاجرين وجادلوا الأنصار في الأمر ثم وضع عمر بن الخطاب(ر.ع) الحاضرين أمام الأمر الواقع بالإقدام على بيعة أبي بكر الصديق (ر.ع) ثم تتالت بيعة الآخرين، ولما كان الإجراء كله غير مدبر فقد وصف عمر بن الخطاب (ر.ع) بيعة أبي بكر بأنها "فلتة وقى الله شرها" وأبوبكر رضي الله عنه خلف عمربن الخطاب بعد أن استشارالناس، وعمر أوكل أمر الاختيار للستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة وهو ما نطلق عليه بلغة العصر الكلية الانتخابية فاختير عثمان وهكذا تعددت الأساليب والوسائل لاختيار الخليفة مما يبين أن الأمر لم يرد فيه نص قاطع وإنما روعيت المصلحة . والفكر الاسلامي قديما تطرق لهذا الموضوع وتبلورت ثلاث نظريات: الأولى : يرى أصحابها أن تنصيب الإمام وإقامة الدولة في المجتمع الإسلامي فرض من فروض الدين وركن من أركانه ، فهي ليست قضية مصلحية تناط باختيار العامة بل هي قضية أصولية وهي ركن من الدين وهذه النظرية ذهب إليها الشيعة. الثانية: يرى أصحابها أن الإمامة والدولة ليست واجبة بمعنى أن الدين لم ينص على وجوب إقامتها ولا على وجوب تركها، بل ترك أمرها للمسلمين فإن هم استطاعوا نصب إمام عادل من دون إراقة الدماء ومن دون حروب وفتن فذلك أفضل، وإن هم لم يفعلوا ذلك وتكفل كل واحد منهم بنفسه وأهله وطبق أحكام الشريعة كما هومنصوص عليها في الكتاب والسنة جاز ذلك وسقطت عنهم الحاجة إلى إمام . وهذه النظرية قال بها بعض أوائل الخوارج والنجدات وفريق من المعتزلة. الثالثة: تقول بأن الإمامة واجبة وأنها تكون بالإختيار لابالنص وأصحابه هذه النظرية اختلفوا فمنهم من يري أن وجوب الإمامة يفهم بالعقل، ومنهم من يرى أنه يفهم بالشرع ومنهم من يجمع بين الاثنين. والخلاف في هذه المسألة يرجع في الحقيقة إلى أصول المذاهب وليس إلي القضية نفسها . لقد اختلف المسلمون قديما حول النظام السياسي في الاسلام بين سنة وشيعة وخوارج "ومع اتفاقهم علي ضرورتها ووجوبها فإنهم اتفقوا - خلاالشيعة – على أنها من الفروع وليست من أصول العقائد ولا من أركان الدين.. فهي واجب مدني اقتضاه ويقتضيه الواجب الديني، المشتمل على تحقيق الخير للإنسان في هذه الحياة" فالدولة في الاسلام ليست ركنا دينيا وإنما هي واجب مدني وضرورة مدنية، فالامام الغزالي يقول: " إن نظرية الامامة ليست من المهمات وليست من فن المعقولات بل من الفقهيات" وإمام الحرمين الجويني يقول: " إن الكلام في الإمامة ليس من أصول الإعتقاد" وعضدالدين الايجي والجرجاني يقولان: "إن الامامة ليست من أصول الديانات والعقائد بل هي من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين" ويتفق الشهرستاني مع كل هؤلاء فيقول: " إن الإمامة ليست من أصول الإعتقاد" أما ابن خلدون فإنه يرفض قول الشيعة بأن الإمامة من أركان الدين ويقول: " وشبهة الشيعة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين.. وليس كذلك ، إنما هي من المصالح العامة المفوضة إلي نظر الخلق" وفي الواقع العملي استمرت الخلافة الراشدة ثلاثة عقود ثم تحول النظام إلي وراثة ملكية وسلطنة وإن تسمت بمسمى الخلافة الاسلامية. لكن قضية الدولة الاسلامية برزت في الفكر الاسلامي بصورة قوية في العصر الحديث خاصة بعد أن أسقطت الخلافة العثمانية ووقعت البلاد الاسلامية تحت نيرالاستعمار الأوربي وواجهت الأمة تحديات الحداثة وتعقيدات الدولة الحديثة عندها انبرى العلماء والمفكرون يبشرون بالحل الاسلامي المتمثل في تطبيق الشريعة في ظل دولة اسلامية تعالج كل المشاكل الانسانية من داخل الاسلام، فالدولة الاسلامية المبشر بها تكفل الشورى وتحترم حقوق الانسان وتطبق فريضة الزكاة بأخذ الأموال من الأغنياء لتصرف على الفقراء، واجتهد المفكرون والعلماء في التنظيرللدولة الاسلامية ليقدموا بديلا نظريا للنظم الوضعية واستطاعوا قدرالإمكان أن يستقطبوا عددا لابأس به للإلتفاف حول مشروع الدولة الاسلامية الموعودة وقامت حركات اسلامية تبشر بالمشروع الاسلامي ووصل بعضها إلى السلطة فهل استطاعت أن تحقق ماوعدت به على أرض الواقع؟ المحورالثاني سيبين العوامل التي أعاقت وتعيق تحقيق الآمال المتعلقة بإقامة الدولة الاسلامية.
المحورالثاني: الدولة الإسلامية مشروع نهوضي حضاري (واقعي).
المسلمون يشكلون خمس سكان العالم تقريباً , ويتوزعون في كل القارات , والعالم الإسلامي يوجد جغرافياً في قلب المعمورة وله صلات جغرافية بمعظم قارات الدنيا , بل يسيطرعلى أهم الطرق والممرات الدولية , ويسيطرعلى معظم الطاقة البترولية في العالم , فأمة الإسلام من حيث العدد والموارد والموقع الاستراتيجي والرباط الروحي أمة فريدة لا تضاهيها أمة أخرى . ولكن مع هذه الميزات البارزة فإنها تعاني من الآتي :
أولاً : التقسيم القطري : فمنذ سقوط الخلافة العثمانية في تركيا عام 1924م فقدت الأمة الرباط السياسي وتقسمت إلى دويلات قطرية صغيرة منغلقة على نفسها وحلت المواطنة محل الرباط الديني, وفي معظم الأحيان توجد مشاكل بين الدولة وجاراتها من الدول التي تنتمي إلى نفس الدين بل دخلت في حروب استعانت فيها بالأجنبي على ابن العم فاتسعت شقة الخلاف وصار الغريب أقرب من الجار الشقيق الذي تجمعه مع جاره ديانة واحدة وثقافة واحدة وتاريخ مشترك ..
ثانياً : التفاوت الإقتصادي : بعض الدول الإسلامية تصنف من الدول الغنية وبعضها متوسطة الحال وأخرى تعيش تحت خط الفقر , فالفوارق الإقتصادية افرزت فوارق اجتماعية ونفسية قتلت الشعور بالتضامن عند كثير من المسلمين , مع أن الدعوة الإسلامية في الأصل جاءت لتصحيح العقيدة وللتقسيم العادل للثروة , وشنّت حملة كبيرة على المحتكرين والمرابين وأصحاب الكنوز والمانعين الماعون والممتنعين من الحض على طعام المسكين . هذا التفاوت لم يقتصر على الدول بل انسحب حتى على المواطنين في الدولة الواحدة فبعضهم يموتون من التخمة وآخرون يموتون من الجوع وصدق إمام المتقين علي عليه السلام عندما قال : " ما جاع فقير إلا بتخمة غني " ..
ثالثاً : الصراع السياسي : لا تكاد دولة اسلامية تخلو من صراع على السلطة , والصراع والتدافع جبلة بشرية ولكن طبيعة الصراع السياسي في البلدان الإسلامية صراع خشن إلا من رحم الله فالدول الغربية مثلاً حلت هذا الاشكال واهتدت إلى التداول السلمي للسلطة فوفّرت كثيراً من الطاقات والإمكانات والأرواح المهدرة في الصراع من أجل السلطة , ولكن عالمنا الإسلامي في الغالب يخلو من الحاكم السابق الحر الطليق فهو إما في السجن وإما في القبر , وطبيعة الصراع السياسي عندنا تخلو من التسامح فالحكومة لا ترى في المعارضة إلا متآمرة وخائنة ومخربة والمعارضة لا ترى في الحكومة إلا الوجه القبيح المتمثل في البطش والتنكيل والفساد ...الخ
رابعاً : الخلاف : أصبح الخلاف سمة غالبة فهنالك خلاف طائفي وهناك خلاف سياسي وهناك خلاف فكري وهنالك خلافات مذهبية , والخلاف سنة إلهية وضرورة اجتماعية وواقع كوني ولكن طبيعة الخلاف هي التي تفرق بين الشقاق المذموم والإختلاف المحمود , إن الواقع الإسلامي يبين أن معظم الخلافات مذمومة لأن كل صاحب مذهب أوطائفة أو فكر لا يقبل بالآخر ويسعى لاستئصاله , بل انتشرت ظاهرة التكفير التي أصبحت سمة غالبة لخوارج العصرالحديث , فالخلافات المذمومة داخل الأمة واحدة من عوامل التراجع ..
خامساً : الأطماع الخارجية : تلك العوامل أظهرت الأمة بمظهرالضعف , فقد عجزت أن تحرر القدس أولى القبلتين والحرم الثالث في الإسلام , هذا الضعف أطمع العدو فصار ينفذ سياساته في بلاد المسلمين عبر بلدان وشخصيات مسلمة , وصارت ديار المسلمين ساحة للحروب الدولية بالأصالة والوكالة , وفقدت الأمة شخصيتها الإعتبارية وصار الغرب مبهراً لكثير من الشباب المسلم لأنه يجد عنده ما يفتقده في بلده كالتنمية والحرية واحترام حقوق الانسان ..الخ فهاجر كثيرمن أبناء المسلمين للغرب طلباً للرزق أو فراراً من البطش أو تلبية لحاجة نفسية .
سادساً : الشعار الإسلامي : اختطف من قبل الغلاة والمتطرفين , فالمظالم المشار إليها أصبحت بيئة صالحة لولادة التطرف , واستغل المتطرفون هذا الواقع واندفعوا ينشدون التغيير فشنوا حرباً على الجميع وأعلنوا الجهاد على الكفار فدفعوا بالأمة إلى أتون حرب لاناقة لها فيها ولاجمل , وهكذا وجد العدو فرصته ليعلن الحرب على كل المسلمين تحت شعار الحرب على الارهاب , فضاعت قضية المسلمين المركزية ـ احتلال فلسطين ـ وفقدنا أفغانستان , و تحول العراق إلى بـؤرة متفجرة , اختلطت فيها الأوراق : فالارهاب والاستهداف الطائفي والغلو عناصر أدت إلى تشويه مقاومة الاحتلال . ولبنان مهدد بالانجراف , والصومال تمزق , والسودان في طريقه إلى التمزق , هنالك تحالف بين الاستبداد والتطرف وتيارالمحافظين الجدد في أمريكا , هذا التحالف هو المسئول عن الكارثة التي تمر بها أمتنا في الوقت الراهن .
سابعا: المسلم المعاصر لايفكر ولايتصرف فقط بوحي من القرآن والسنة اللذين هما في الأصل يحملان كثيرا من أوجه التفسير والتأويل، وإنما كذلك بوحي من حساباته الشخصية وخبراته الذاتية التي تجعلنا بحاجة إلي أن نتفاعل مع المسلم الإنسان باعتباره حاضرا وفاعلا ومفكرا وصاحب رأي فيما يحدث حوله
إن التجارب التي أغفلت هذا الواقع وجدت نفسها عاجزة عن المحافظة على بلدانها ناهيك عن تقديم نموذج يقتدى به! هنالك ضرورة لاستصحاب هذا الواقع لكل من يسعى لإقامة الدولة الاسلامية حتى يتمكن من مخاطبة تحديات الواقع والتصدي لقضاياه ولايتم ذلك إلا بصياغة بديل حضاري ونظام إجتماعي أفضل يقوم على المبادئ الآتية:
المبدأ الأول:صياغة خطاب يستصحب الخبرة النبوية في إحداث التحول من المجتمع الجاهلي الظالم إلي مجتمع الاسلام العادل الذي في ظله تحققت المساواة للجميع التي قوامها قوله تعالى " إن الله يأمربالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" [النحل:90] والنظام العالمي الآن أشبه بمجتمع الجاهلية في تواطئه على الظلم والاستعلاء واستنزاف مقدرات الشعوب فكما استطاعت الدعوة الاسلامية في فجر الاسلام أن تتصدي للنظام الجاهلي في مكة والمكراليهودي في المدينة والتآمرالدولي في فارس والروم بوسائل سلمية ولم يستعمل العنف إلا لرد العدوان بعد صبر طويل وجميل يعبرعنه القرآن الكريم بهذا التوجيه الإلهي " خذالعفو وأمربالعرف وأعرض عن الجاهلين" [الأعراف:199] فنحن مطالبون للتعامل مع هذا الأمربحكمة وسعة أفق بعيدا عن الإنفعال وتضخيم الذات.
المبدأ الثاني: تحديد واضح لمعالم الدولة الاسلامية من حيث إختيارالحاكم واختصاصاته وخضوعه لمراقبة الأمة عبرالبرلمان المنتخب، وطبيعة الدولة الاسلامية المدنية وعلاقتها بالشعب وكفالة حقوق الانسان وحرياته الأساسية وكفالة حقوق غيرالمسلمين والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات على أساس التوجيه الوارد في سورة النساء الذي تضمن الدفاع عن اليهودي وإدانة المسلم كما جاء في الآيات [105 – 113 النساء]
المبدأ الثالث: صياغة مبادئ عامة من التعاليم النبوية وتجربة الخلافة الراشدة خاصة الفترة العمرية باعتبارها مرحلة استنباط وتطبيق عملي للأحكام والمبادئ الإسلامية بصورة أبرزت معالم الدولة الاسلامية مثل ماورد في رسالته في القضاء لأبي موسى الأشعري وموقفه من ابن واليه على مصر عمروبن العاص وتقيسمه للأعطيات ومحافظته على المال العام إلي غير ذلك مما هو مدون. بل موقف الرسول صلى الله عليه وسلم الواضح من الحرص على رد المظالم وعدم إهدار حقوق الناس كما ورد في الحديث الشريف " أيها الناس من كنت قد جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه،[يأخذ منه القود – القصاص] ومن كنت قد شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ومن كنت قد أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولايخشى الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا كان له أو استعفاني حتى ألقى ربي وأنا طيب النفس "
المبدأالرابع: المرونة في الأخذ من التجارب الإنسانية المتفقة مع مقاصد الاسلام والمحققة للمصلحة على أساس قوله تعالى " ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولايجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيربماتعملون" [المائدة:8] والتجربة الاسلامية استفادت من الفرس في حفرالخندق واستفادت من الروم في تدوين الدواوين، فما انتجه العقل الانساني من وسائل ونظم نافعة يجوز استصحابه في الدولة الاسلامية.
المبدأ الخامس: إدراك التطور الذي حدث في النظام السياسى فقد انتهى العهد الذي يتصرف فيه الحاكم كما يريد بل هو محكوم بدستور ومراقب بمؤسسات ومقيد ببرنامج يقوم على أولويات، فالتفكير الآن عن نظام له مؤسسات وقوانين ونظم وليس عن شخص يحكم بأمره، والاسلام من خصائصه المرونة والاستصحاب لكل نافع من عطاء الانسان ، فالمؤسسات والنظم التي وصلت إليها الإنسانية عبرمسيرتها الطويلة في مجال الحكم واستطاعت أن تحقق التداول السلمي للسلطة وتخضع القوات المسلحة للسلطة المدنية المنتخبة وتبتكر مؤسسات تشريعية وقضائية وتنفيذية تتكامل في المحافظة على الدستورهذا الانجاز يمكن الاستفادة منه لتطبيق مبادئ الاسلام المتعلقة بالدولة.
المحورالثالث:قضايا التعددية ومفهوم حقوق الإنسان:
التعددية:
التعدد واقع كوني وضرورة إجتماعية وإرادة إلهية والنصوص الواردة في هذا المعنى كثيرة قال تعالى "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" [هود:118- 119] وقال تعالى " قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا" [الإسراء:84] والمجتمع الإنساني قائم على التعدد بصورة أوضح من الشمس في رابعة النهار. ومفهوم التعددية في المجال السياسي يراد به وجود أحزاب سياسية لها نظمها وبرامجها تتنافس من أجل الوصول إلي السلطة يقرها الدستور وينظم نشاطها فهل يقبل الاسلام هذا النوع من النشاط ويعطيه مشروعية؟ للاجابة على هذا السؤال لابد من قراءة تأصيلية على النحو التالي:-
أولا: أقرالاسلام مبدأ الاختلاف واعتبره ضرورة اجتماعية وآية من آيات الله تستوجب التدبروالتفكر قال تعالى" ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" بل حتى المخالفين في العقيدة خاطبهم بأسلوب فيه اعتراف بحقهم في الاختيار قال تعالى عن المشركين " لكم دينكم ولي دين" وقال تعالى "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"
ثانيا: وفي داخل الاسلام أقر مبدأ الاجتهاد ومشروعية الاختلاف من خلال عدة نصوص ومواقف منها قوله تعالى" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكروأولئك هم المفلحون"[ آل عمران: 104] والدعوة للاجتهاد ومراعاة اختلاف البيئات كلها عوامل تؤدي إلى الاختلاف في وجهات النظربل إن مجتمع المدينة قام على تعددية تمثلت في المهاجرين والأنصار واليهود بطوائفهم الثلاثة وجاءت بنود صحيفة المدينة معترفة بخصائص كل طائفة وحقها في تحكيم أعرافها في ظل الدولة الاسلامية التي ينضوون تحت لوائها. وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلف الصحابة في عدد من القضايا والمواقف وأقر رسول الله اختلافهم لعلمه باختلاف البيئات التي ينحدرون منها. ولهذا الإختلاف فوائد كما يقول الدكتور : طه بن جابر العلواني منها: (أنه يتيح التعرف على جميع الإحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل قد رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة . وثانياً: إنه يتيح رياضة للأذهان وتلاقحاً للآراء ويفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الإفتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها . وثالثاً : إنه يتيح تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل المناسب للوضع الذي هو فيه بما يتناسب مع يسر هذا الدين الذي يتعامل معه الناس من واقع حياتهم ) . إنها فوائد يؤكدها الإنتاج الفكري والعلمي الذي تذخر به الساحة الإسلامية ويصدقها الواقع الذي أفرز قضايا معقدة تمكن الفقهاء من التعامل معها.
ثالثا: النظام السياسي في العصر الحديث يقوم علي أحزاب سياسية لديها قواعد شعبية ونظم وبرامج وهي المنوط بها التعبير عن مطالب الشرائح الاجتماعية التي تمثلها فهي تنوب عنها في عرض مشاكلها وقضاياها من خلال مايدور في البرلمان المنتخب الذي يضع التشريعات والسياسات التي تسير عليها الدولة، وهي نظم لاتتعارض مع الاسلام بل يوجبها كما هو مفهوم من الدعوة إلي تكوين جماعات تدعو إلي المعروف وتنهى عن المنكر، فالتعددية تتيح الفرصة لممارسة الشورى بأقوى صورة تحقق مقاصد الاسلام في المجال السياسي، وهي أداة لبلورة الآراء والأفكارالجماهيرية من خلال مؤسسات منضبطة.
حقوق الانسان:
تعد مسألة حقوق الانسان في الوقت الحاضر من أهم ما يشغل المجتمع الدولي.. وأصبحت من الوسائل المهمة التي تتذرع بها الدول المتقدمة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ... وقد تعالت الأصوات بإلغاء مبدأ سيادة الدولة عندما يتعلق الأمر بحماية حقوق الانسان، كما حدث ذلك في الدورة الرابعة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1999/2000 فقد تعالت الأصوات بأن لاتكون سيادة الدولة عائقا أمام تدخل الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان في الدول الأعضاء" وتمشيا مع هذا التوجه صدرت مواثيق متعددة لحقوق الإنسان بعد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الصادرفي 10 ديسمبر1948م أذكرمنها الميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان الصادر في 22نوفمبر1969م والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان الصادرعن منظمة الوحدة الأفريقية بالقرار116 في مدينة ميزوتيا بدولة لايبيريا في 30 يوليو1979م ، والميثاق الاسلامي لحقوق الإنسان الصادرفي المؤتمر التاسع عشر لوزراء الخارجية للدول الإسلامية في المؤنمر المنعقد بالقاهرة في 5 أغسطس 1990م، والميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادربقرار مجلس جامعة الدول العربية القرار رقم: 5427 في 15 ديسمبر1997م والميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان الصادرمن الإتحاد الأوروبي في 7 ديسمبر 2000م هذه المواثيق حاولت الجهات التي أصدرتها أن تؤكد التزامها باحترام حقوق الانسان وكفالة حرياته الأساسية. وإذا استعرضنا تاريخ الإنسانية لوجدنا أن هنالك عقائد وضعية تعاملت مع الإنسان على أساس أنه نجس لا قيمة له ، فانتقصت من قدره وقررت إنه لا يسمو إلا إذا عذب جسده وأهان نفسه . وهنالك عقائد غالت في تعاملها مع الإنسان حيث وضعته في مرتبة الألوهية . وكلا العقيدتين فاسدة ولكن الإسلام جاء بفهم وسط لم يستصغر الإنسان ولم يؤلهه وإنما جعله مخلوقا مكرماً لمجرد إنسانيته . قال تعالى : "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا "[الإسراء:70] هذا التكريم جاء لمجرد الإنسانية بغض النظر عن الدين أو العرق أو اللون . وعندما تحدث الله سبحانه وتعالى عن التفاضل بين الناس لم يخاطب المؤمنين وإنما خاطب الناس أجمعين قال تعالى:"ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم .."[الحجرات:13] فالمخاطبة هنا جاءت لجميع الناس والأفضلية هنالك عند الله، أما في الدنيا فالناس جميعاً متساوون أمام الشرع أجسادهم متساوية وحقوقهم متساوية، وعندما قتل حمزة بن عبدالمطلب سيد الشهداء وعم رسول الله وأخوه من الرضاعة مُثّل به حيث بقرت بطنه وجدع أنفه وقطعت أذناه ، فجاء رسول الله ورأى المشهد ففاضت عينه بالدمع وقال : " والله لئن ظفرت بهم لأمثلن بثلاثين " . نزل القرآن على رسول الله ليوضح له ولجميع المسلمين أن جسد حمزة مثل جسد أي بشر عادي ! إن أردت أن تمثل فعليك أن تمثل بشخص واحد ،اما الأفضلية فهنالك عند الله ولكن في هذه الدنيا عليك أن تعامل جميع الناس معاملة واحدة قال تعالى : " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين"[النحل: 126] يفهم من هذا ان الناس جميعاً متساوون في الحقوق والواجبات ، " فالاسلام إذا نص علي الحقوق الانسانية قبل أن تعرف البشرية هذه المفاهيم في العصرالحديث، وأذكرهنا أصول هذه الحقوق على النحوالتالي:
حرمة النفس الانسانية: لقد حرم الله سبحانه وتعالى قتل النفس وذلك في قوله تعالى "ولاتقتلوا النفس التي حرم الله إلابالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلايسرف في القتل إنه كان منصورا" [الإسراء:23]
حرية العقيدة: وحرية الإعتقاد مكفولة في الاسلام فلايجوز إكراه أي شخص على الإيمان ، قال تعالى " لاإكراه في الدين قدتبين الرشد من الغي..." [البقرة:256] وقال تعالى ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ.. ﴾ [الكهف:29] وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس:99] فهذه النصوص تؤكد حرية الإنسان وتنفي أية وصاية عليه وتبين أن العقيدة لا تكون بالإكراه وإنما بالإقتناع واختيار الإنسان الحر هو ما تقتضيه عدالة المحاسبة.
حرية الرأي: لقد كفل الاسلام حرية الرأي وجعلها سلوكا متأصلا في المجتمع وذلك عن طريق الأمربالمعروف والنهي عن المنكر والشورى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعله الإسلام من أساسيات الدين بل إنه يحافظ علي الدين كله ، لأنه يكون الرأي العام فيحافظ على مبادئ الدين وقيمه ويحاصر كل اتجاه نحو الإنحراف والميل عن الصواب .عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الدين النصيحـة )) قلنا لمن ؟ قال (( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )) ولم يكتف الإسلام بالنصيحة الفردية بل دعا لتكوين جماعة تتخصص في هذا الأمر قال تعالى : ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[آل عمرن:104] وكذلك الشورى فهي صفة من صفات المؤمنين ففي قضايا الأسرة تدخل الشورى : ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا.. ﴾[البقرة:233] وقضايا المجتمع يتشاور حولها : ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ..﴾[الشورى:38] وحتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسدّد بالوحي أمر باستشارة أصحابه ، قال تعالى : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ..﴾[آل عمران:159] لقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على مبادئ وقيم جعلتهم حملة حضارة دينية إنسانية في وقت تراجعت فيه الإمبراطوريات القديمة ، وكان مجتمع الصحابة يضم رموزاً برعوا في ثقافة الحوار. فمجتمع الإسلام الذى تحكمه الخلافة الراشدة لا يعرف النفاق ولا التملق فهما محاصران بوعي الجمهور وحكمة الخلفاء الذين يستجيبون للنصح ويمتثلون للحق مهما كان مصدره .
حرية التنقل: دعا الاسلام للسعي والانتشار في الأرض طلبا للرزق وزيادة في المعرفة قال تعالى "هوالذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور"[الملك:15] ولايجوز منع الإنسان من التنقل والإقامة في أي مكان إلا عقوبة علي جريمة ارتكبها منصوص على عقوبتها كما ورد في عقوبة الحرابة في قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أوتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أوينفوا من الأرض..."[المائدة:33] بل نهى الاسلام عن الإقامة في أرض لايتمتع فيها الإنسان بالحرية قال تعالى"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا"[النساء:97]
حرمة الخصوصية: كفل الاسلام للانسان خصوصيته فلايجوز الاطلاع عليها إلابإذنه ونهى الاسلام عن التجسس ورد ذلك النهي في القرآن الكريم وفي السنة الشريفة والتزم الخلفاء الراشدون بهذه الأحكام فقد تسلق عمر بن الخطاب السور ذات مرة على بعض الناس فوجدهم يعاقرون الخمر فزجرهم فقال أحدهم على رسلك يا عمر إن كنا قد ارتكبنا جرماً فأنت قد ارتكبت ثلاث مخالفات . قال تعالى : "يـأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها .." وأنت دخلت علينا دون إذن ولا سلام . وقال تعالى : " وأتوا البيوت من أبوابها .. " وأنت تسلقـت علينـا السور . وقال تعالى : " ولا تجسسوا" وأنت تجسست علينا. فولى عمر وهو يقول : " كل الناس أفقه منك يا عمر " !!! فكافة حقوق الانسان المنصوص عليها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان كفلها الاسلام قبل أن تهتدي الانسانية لذلك بل جعلها واجبا شرعيا لايجوز التنازل عنه ، فالانسانية في ظل الاسلام عاشت رحمة وعدلا ومساواة لم تشهد البشرية لها مثيلا من قبل، صحيح حدث تراجع في هذا المجال المطلوب بحثه ومعالجة أسبابه.
المحورالخامس: العمل المشترك في أطار المواطنة
المواطنة أصبحت اليوم هي أساس الحقوق والواجبات في الدول وكثيرمن الدول الاسلامية توجد فيها مجموعات لاتدين بالاسلام ولكنها بحق المواطنة متساوية مع غيرها، ولتعزيز فكرة التسامح والعيش المشترك هنالك مجالات يمكن أن يقوم فيها عمل مشترك بين الناس مهما اختلفت أديانهم تلك المجالات هي:
1- المحافظة على الثوابت الوطنية
2- التعاون لدرء آثارالكوارث والنكبات الانسانية
3- التعاون للتصدي للإلحاد ومحاربة الرذيلة والتحلل الأخلاقي
4- التواصل الاجتماعي
5- التعاون لرد المظالم وكفالة حقوق الانسان
6- تكوين آلية مشتركة لفض النزاعات بالوسائل السلمية
7- النشاط الاقتصادي
المحورالسادس: حفظ حقوق الأقليات غير المسلمة
تاريخيا تعاملت الدولة الاسلامية مع الأقليات بمبدأ الحرية الدينية وحماية الحقوق فالخليفة عمر بن الخطاب كتب عهدا لنصارى المدائن وفارس يحمي حقوقهم الإنسانية والدينية والمدنية من أي عدوان ونصه : (هذا كتاب من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين : لأهل المدائن ، وبهرسير ، والجاثليق بها ، وقسانها ، وشمامسها . جعله عهداً مرعياً ، وسجلاً منشوراً ، وسنة ماضية فيهم ، وذمة محفوظة لهم . فمن كان عليها كان بالإسلام متمسكاً ، ولما فيه أهلا ، ومن ضيعه ونكث العهد الذي فيه وخالفه وتعدى ما أمر به كان لعهد الله ناكثاً، وبذمته مستهيناً سلطاناً كان أو غيره من المسلمين . أما بعد : فإني أعطيتكم عهد الله وميثاقه وذمة أنبيائه ورسله وأصفيائه وأوليائه من المسلمين، على أنفسكم وأموالكم وعيالاتكم وأرجلكم ، وأماني من كل أذى وألزمت نفسي أن أكون من ورائكم ، ذاباً عنكم كل عدو يريدني وإياكم ، بنفسي وأتباعي وأعواني والذابين عن بيضة الإسلام ، وأن أعزل عنكم كل أذى في المؤن التي يحملها أهل الجهاد من الغارة ، فليس عليكم جبر ولا إكراه على شئ من ذلك . ولا يغير أسقف من أساقفتكم ولا رئيس من رؤسائكم ، ولا يهدم بيت من بيوت صلواتكم ولا بيعة من بيعكم ، ولا يدخل شئ من بنائكم إلى بناء المساجد ولا منازل المسلمين ، ولا يعرض لعابر سبيل منكم في أقطار الأرض ، ولا تكلفوا الخروج مع المسلمين إلى عدوهم لملاقاة الحرب . ولا يجبر أحد ممن كان على ملة النصرانية على الإسلام كرهاً لما أنزل الله في كتابه: "لاإكراه في الدين"[البقرة:256]
﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ﴾ [العنكبوت:46] وتكف أيدي المكروه عنكم حيث كنتم . فمن خالف ذلك فقد نكث عهد الله وميثاقه ، وعهد محمد صلى الله عليه وسلم ، وخالف ذمة الله والعهد الذي استوجبوا به حقن الدماء ، واستحقوا أن يذب عنهم كل مكروه ، لأنهم نصحوا وأصلحوا ونصروا الإسلام ) فماذا ترك هذا العهد للميثاق العالمي لحقوق الإنسان ؟! فميثاق حقوق الإنسان ينص على حقوق نظرية ولكن عهد عمر يلزم الدولة والمجتمع والأفراد بحماية الحقوق والدفاع عن الآخر ضد أي عدوان ، وكف الأذى عنهم والإمتناع عن كل ما من شأنه أن يسئ إليهم أو إلى معتقداتهم ودور عبادتهم وينهي عن التدخل في شئونهم الدينية فهم أحرار في اختيار من يمثلهم . فحق الآخر إذن مكفول ومصان بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية وموثق بعهود ملزمة لا يجوز نقضها من الخلف. وعندنا في السودان عاملت المهدية أهل جنوب السودان على أساس المواطنة ولم تجبرهم على الدخول في الاسلام بل كان منهم أمراء تركوا على ملتهم وخاطبهم الامام المهدي أن يحرروا مناطقهم من الاستعمارويحكموها بسلاطينهم.
وخلاصة القول أن الدولة الاسلامية لكي تتحقق في أرض الواقع تحتاج إلي جهود فكرية وسياسية واقتصادية تسترشد بهدي الاسلام من النصوص القطعية وتطبيقها في عصر الرسالة وتجربة الخلافاء الراشدين مع استصحاب الواقع بصورة واعية وحكيمة . قال تعالى" ولقد كتبنا في الزبورمن بعدالذكرأن الأرض يرثها عبادي الصالحون"[الأنبياء:105]
التوصيات:
1- الفكرالسياسي يحتاج إلى مراجعة تستصحب نهج النبوة وتطبيقات الخلافة الراشدة
2- هنالك ضرورة لبلورة معالم واضحة لمعالم الدولة الاسلامية وبذل مجهود لجعلها ثقافة مجتمعية
3- دراسة الواقع دراسة موضوعية واستيعاب حقائقه والتعامل معه بنهج النبي القدوة
4- التعددية إرادة إلهية وضرورة إجتماعية وواقع سياسي ينبغي استصحابها وترشيدها
5- كفالة حقوق الانسان منصوص عليها في القرآن والسنة والمشكلة في التطبيق
6- الآخرالديني له مشروعية دينية ووطني وحقوقية يجب المحافظة عليها
7- العمل المشترك في ظل المواطنة له أوجه كثيرة المطلوب بحثها والتشجيع عليها
8- الدولة الاسلامية تاريخيا قامت علي التعددية فحققت وحدة في ظل التنوع
9- المواطنة كأساس للحقوق والواجبات لاتتعارض مع قطعيات الاسلام
10- حماية الأقليات وحفظ حقوقها واجب شرعي وضرورة إجتماعية لتحقيق الوحدة الوطنية
المراجع:
- القرآن الكريم
- السنة النبوية
- مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة تأليف محمد حميدالله
- البداية والنهاية لابن كثير
- الإقدام في علم الكلام للشهرستاني.
- الدين والدولة وتطبيق الشريعة الاسلامية للدكتور محمد عابدالجابري
- الدولة الاسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية د محمد عمارة
- المسلمون والديمقراطية دراسة ميدانية صفحة 12 إعداد معتزبالله عبدالفتاح
- حقوق الانسان في الاسلام د سهيل حسين الفتلاوي
- أدب الإختلاف في الإسلام طه جابر العلواني
- مفهوم الدولة في الاسلام : الإمام الصادق المهدي
- الحوارفي الاسلام حقائق ونتائج : عبدالمحمود أبو
الأربعاء، 6 يوليو 2011
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق